توفيق الجبالي يشرّح الواقع التونسي مسرحياً

لم تكن مسرحيّة «صفر فاصل» التي تنتمي إلى سلسلة «كلام الليل»، مجرّد امتداد لأعمال توفيق الجبالي السابقة، تستعيد مضامينها، وتستلهم أساليبها في العرض، إنّما كانت انعطافاً على أسئلة جديدة اقتضت، بالضرورة، استخدام طرائق في الأداء جديدة. وعنوان هذه المسرحيّة (صفر فاصل) يشير إلى النسبة التي حصلت عليها بعض الأحزاب اليساريّة في الانتخابات التي أعقبت الثورة، وقد استخدمت الأحزاب الفائزة هذه العبارة للتهوين من شأن أحزاب اليسار وربّما للسخرية منها.
لم يعد المسرح عند الجبالي، بعد الزلزال القويّ الذي هزّ المجتمع التونسي، مجّرد مختبر، يسعى من خلاله الجبالي إلى استحداث لغة مسرحيّة جديدة، وإنّما أصبح، إضافة إلى بعده التجريبي الذي ظلّ حاضراً بقوّة، تساؤلاً وتشكيكاً في المسلمات وإعادة نظر في كل الثوابت. لا شكّ في أنّ هناك بعض الوشائج التي ظلّت تشدّ أعمال الجبالي بعضها إلى بعض، بخاصّة واشجة اللغة الساخرة التي تأخذ أحياناً شكل هذيان جميل يحوّل العمل المسرحيّ إلى قطعة أدبيّة ساحرة. لكن، على رغم هذه العلاقات تظلّ مسرحيّة «كلام الليل، صفر فاصل» مختلفة عن مسرحيّات الجبالي السابقة. اختفت في هذه المسرحيّة، نبرة التفاؤل التي كانت تخترق الأعمال السابقة وتحوّلها، على رغم سخرية الجبالي السوداء، إلى خطاب يدعو إلى التطوّر ولا يصرف الوجوه عنه. وارتفعت، عوضاً عنه، نبرة غضب وربّما تفجّع تدعو إلى وضع كلّ شيء موضع تأمّل ونظر. ثمة إحساس بالخيبة، وربّما بالإحباط، يحوّل المسرح إلى فضاء للتعرية والكشف.
هذه المسرحية دارت حول الثورة التونسية وما صاحبها من اغتيالات وعنف وانفلات أمني وانبثاق أحزاب متطرفة وانتشار ظاهرة الفتاوى وتوافد الدعاة المتشدّدين يوجهون الشباب التونسيين الوجهة التي يريدون.
كلّ فصول المسرحية محاولة لفهم ما حدث، ولإدراك ما غمض من وقائع عاشها الشعب التونسيّ واكتوى بنارها على امتداد سنوات ثلاث.
عروسان يحملان جثة متظاهر ويطوفان بها كلّ أركان الخشبة... هكذا تستهلّ المسرحيّة. لا مكان يتّسع لهذه الجثّة، لا أرض تحتضنتها. يعدو العروسان في كلّ اتّجاه يجرانها. لا نعرف هل يريدان مواراتها التراب، أم الارتفاع بها عالياً إلى السماء. ثمّة في هذا المشهد ما يحيل على قصة قابيل وهابيل، خصوصاً على جثة هابيل التي بقيت في العراء.
ينتهي هذا المشهد من دون أن يظهر الغراب. لتبقى الدماء صارخة وفق التعبير التوراتي.
ينفتح المشهد الثاني على مشرحة تسجّى، في فضائها الفسيح، جثث ثلاث تعود إليها الحياة لتروي ما حدث غداة الثورة. شخصيات بلا ملامح كأنّها اختزلت الناس جميعاً. تتقدّم لتسرد يوميّات الثورة، وتطرح أسئلة كثيرة... كل الحوار طافح بالألم والمرارة. فهو يحيل مرة على الاغتيالات السياسية التي فاجأت التونسيين، ويحيل مرّة ثانية على ظاهرة التطرّف التي غنمت مساحات جديدة في المجتمع التونسيّ، ويحيل مرّة ثالثة على الدعاة الذين يبشرون بثقافة جديدة... إنّها محاولة لاستقراء واقع بدا عصيّاً على الاستقراء.
الشخصيات التي ظهرت فوق المسرح كانت من دون وجوه، ولا أسماء، ولا هويّات محددة. إنها عبارة عن أقنعة. وهذه الأقنعة محملة بالرموز. لهذا، لا نرى ممثلين، إنما نرى أجساداً مطموسة الملامح تتحرّك في فضاء المسرح تملأه بحضورها الغامر. فالمسرح لدى الجبالي هو في المقام الأوّل ذو طابع احتفاليّ حيث تتحوّل الأضواء والأصوات والموسيقى إلى دوالّ في نصّ دراميّ كبير. الجبالي يستبدّ بحاسّتي السمع والنظر، فمسرحيّته تقوم على نصّ ساخر، ممعن في سخريّته، مثقل بالرموز، والإشارات البعيدة، وهي أيضاً لوحات مبهرة، تشدّ المشاهد بأضوائها وجماليّة إخراجها.
يقرّ توفيق الجبالي أنّ «كلام الليل» هي من المسرحيات التي رافقتها ظروف خاصة، في البداية كان لها بعد مخبري «ويعود ذلك لكوني أعتبر المسرح دون فضاء مخبري تجريبي مسرحاً غير ذي قيمة. و «كلام الليل» هي بمثابة عمل مخبري حاولنا من خلاله التوفيق بين القيمة الفنية ومكر العمل الفني بمعنى أن الرسالة المضمنة هي رسالة مسرحية بالدرجة الأولى وليست عبارة عن خطاب سياسي فجّ».
ومشكلة المسرح التونسي، في نظر الجبالي أنه «مسرح اجتماعي أكثر منه مسرحاً فنياً، فهو مسرح منشغل باليوميّ ينقل الأشياء بصفة مباشرة. وهو ما يجعل قيمته الفنية تتلاشى وتضمحلّ بمجرد ولادة أحداث جديدة».
ويرى أنّ السياسة تحوّلت إلى «رأس مال» يوظّفه رجال المسرح لجلب جمهور يريد أن يرى هواجسه السياسية في أعمال مسرحية... «والحال أنّنا نستطيع أن ننجز أعمالاً مسرحيّة تتناول الشأن السياسي بعيداً من الآليات المباشرة. لهذا، فإنه لا مستقبل للمسرح السياسي المباشر».
ومسرحية «صفر فاصل» من المسرحيات المفعمة بالدلالات السياسية لكنها لم تتحوّل مع ذلك إلى مسرحيّة سياسية. لقد كانت، قبل كلّ شيء، خطاباً بصريّاً جميلاً يشدنا إليه قبل أن يشدّنا إلى شيء آخر بعده. فالمتفرّج يستقبل، خلال العرض، عدداً كبيراً من العلامات التي أودعها المخرج فضاء الخشبة وكانت من مصادر جمالية العرض كالإضاءة والأزياء والديكور وإيماءات الممثل، وهذه العناصر تدخل في نسيج العرض المسرحي مكونة أنظمة رمزية يتحرك الممثل داخلها.
المصدر: "الحياة"